قد يدمن الإنسان على الدخان أو الكحول أو المخدرات، لكن أن يدمن على التكنولوجيا؟ هذا ما يمارسه العالم بأسره من دون أن يشعر، عبر استخدامه وسائل التواصل الحديثة التي أخضعته لتقنياتٍ جعلته متعلّقاً بها وأصبح لا يستطيع الاستغناء عنها في مجالات عديدة بحياته. وهو يغفل تماماً أنّه كلّما استخدم المواقع المجانية أكثر، كلّما سمح للشركات التكنولوجية العملاقة بتسجيل الأرباح أكثر. في هذا التقرير نسأل، كيف تستحوذ التكنولوجيا على عقولنا وعبر أي تقنيات؟
هناك ناحية إدمان قوية على استخدام التكنولوجيا عامة، فلدى سماع أي إشعار يرن على الهاتف، هناك شيء يلمع في دماغ الشخص كمنبّه، فيصبح الدماغ مدرّباً على أنّه بعد سماعه هذا الإشعار يجب أن بفتح الهاتف ولا يمكنه إلّا أن يفتحه، بحسب ما تشرح د. بريجيت خوري، الاختصاصية في علم النفس العيادي في الجامعة الأميركية في بيروت. وأصبح الفرد إذا لم يمسك جواله بيده، يشعر بأمرٍ غريب وبأنّ شيئاً ينقصه، وإذا ما أضاعه أو نسيه يقوم بنوبة جزع، وهذا بحدّ ذاته نوع من إدمان الشخص على التكنولوجيا وتعلّقه بها، فهو يشعر بالضياع بدونها. لكن هذا الإدمان أصبح طبيعياً بين الناس، وأصبح مَن لا يستخدم التكنولوجيا هو الشاذ عن القاعدة.
وجميع الأجهزة الإلكترونية أصبحت ملموسة، واستخدامنا التكنولوجيا يجعل الفرد يصل إلى ما يريده بسرعة، وهذا يفسَّر وكأنّه مكافأة. ففي الحياة العادية، أي شيء يأخذ وقتاً كي يتم، أمّا في التكنولوجيا فتصل المكافأة سريعاً جداً ويصبح استخدامها نوعاً من الإدمان. وتعطي خوري مثالاً على ذلك، خلال البحث عن معلومة على الإنترنت تصلنا بسرعة جداً، أو عبر التواصل الآني مع الآخرين. لذا يعتاد دماغ الشخص على أن يحصل على ما يريد بسرعة. والجيل الناشئ يفتقد الصبر في ما يتعلق بالتكنولوجيا، وفي هذا الإطار، تحدث مشكلات كثيرة، إذ قلّلت من التركيز والانتباه والصبر على الأمور، وأصبحنا نريد جميع الأشياء بسرعة. وتتأثّر بذلك الصحة العقلية لدى الأفراد جراء الاستخدام المفرط للتكنولوجيا، لذلك وفّرت بعض الفنادق والمنتجعات مساحات خالية من التكنولوجيا.
جميع العاملين في الشركات التكنولوجية كستيف جوبز وأمثاله يمنعون أولادهم من استخدام الأجهزة الإلكترونية، لأنّهم يدرون كم هي مضرة لهم، فهي تؤثّر على تصرفاتهم وتعلّقهم بها. وقد أظهرت العديد من الدراسات، خاصةً لدى المراهقين والأولاد، كيف أنّ استخدامهم الطويل للأجهزة الإلكترونية، سواء على الهاتف أم على اللوحات الذكية، يؤدي إلى قيامهم بالحركات نفسها التي يقومون بها على الأجهزة خلال نومهم، لأنّ الدماغ يصبح معتاداً على القيام بهذه الحركات. فالتكنولوجيا تقدّمت بسرعة أكبر بكثير من الدماغ البشري، وهي قادرة على السيطرة على عقل الأطفال أكثر من الناضجين.
ليس هناك استخدام أمثل للتكنولوجيا، برأي خوري، إنّما تنظيم لاستخدامها، وأن يكون باعتدال، مع المحاولة لضبطه.
لكن ما هي التقنيات التي تستحوذ من خلالها التكنولوجيا على عقل الفرد؟
تعمل الخوارزميات في مواقع التواصل الاجتماعي وفق الذكاء الاصطناعي، فهي قادرة على معرفة سلوك وتوجّه وميول أي متصفّح على الإنترنت، للسيطرة على عقله وتقديم المحتوى المناسب له. والإنسان بطبعه لديه حاجة لجذب الانتباه، لذلك، وفّرت الشركات خاصيات في تطبيقاتها لإشباع هذه الحاجة، من خلال خاصيات كالإعجاب، الحب، الضحك، وخاصية رؤية من شاهد الـ "القصص" وغيرها، وفق المختص في الأمن السيبراني والمستشار في التحول الرقمي والتسويق الرقمي، رولاند أبي نجم. ويبدأ الأفراد بتعداد عدد الإعجاب أو التعليقات، ومَن لا تكون هذه الأعداد على قدر توقّعاته، يمكن أن يدخل في كآبة وانهيار، أي يؤثر ذلك على نفسيته، فالشخص يرى هذه الخاصيات كقياس أو تقييم للصورة ولنفسه، وتلمس مشاعر الفرد الحقيقية.
لذلك، جميع مستخدمي مواقع التواصل يعملون كثيراً على الإشعارات لمحاولة توريط المتصفح باستخدام التطبيق لأكثر وقتٍ ممكن وبشكلٍ متواصل. فكلّما زاد الوقت الذي يقضيه الفرد على مواقع التواصل، كلّما استفادت الشركات المطوِّرة لها من خلال عرض إعلانات أكثر للمتصفّح، وبالتالي تجني الأموال الطائلة جراء استخدامه المتواصل. ففي خمس دقائق مثلاً قد يرى المتصفح خمسة إعلانات، أمّا مَن يبقى لساعة من الوقت فقد يرى خمسين إعلاناً، فمجرد الضغط على الإعلان فقط، هو تسجيل أرباح للشركات.
وتحاول الشركات المطوِّرة ابتكار خاصيات باستمرار لإبقاء المتصفح لأكثر وقتٍ ممكن على الشبكة، عبر اقتراحات إضافة الأصدقاء على "فيسبوك" و"إنستغرام"، واقتراحات الأغاني على "يوتيوب" وغيرها من الخاصيات التي توسّع من شبكة علاقات الفرد الافتراضية. وتدفع أيضاً إلى محادثات الفيديو عبر chat room والتي تطول مدتها عادة، وحتى من خلال إرسال إشعار يفيد بأنّ صديقك على "فيسبوك" علّق على منشور، أو أضاف شخصاً ما على "إنستغرام".
وأصبح هناك تعلّق بهذه التقنيات، وهنا، الساعة الذكية ابتُكِرت لهذه الغاية، فهي ملازِمة للشخص أكثر من الجوال، ومن المستحيل ألّا ينظر إليها باستمرار، وبذلك هناك سيطرة على عقل الشخص.
ومن الخاصيات التي طوّرتها الشركات في هذه التطبيقات لإبقاء الفرد عليها هو الـ typing في جميع محادثات التطبيقات، لجعل الشخص ينتظر رد الطرف الآخر واستمرار المحادثة.
جميع هذه التقنيات وسواها تهدف إلى إدماج المتصفح وتورّطه، لتتعرّف الشركات عبر الخوارزميات على ميول المتصفح لاستهدافه بالإعلانات لجني الأرباح. فتوفير هذه التطبيقات مجاناً، ليس عبثاً. ويقول أبي نجم في هذا الإطار: "إذا لم تدفع للمنتج الذي تستخدمه، فأنت هو المنتج الذي يُباع"، لذا، جميع الخدمات المدفوعة على الشبكة لا تحتوي على الإعلانات.
لكن ليس هناك وتيرة لإصدار الخاصيات، ولدى رؤية أي خاصية تحصد رواجاً بين الناس، تبدأ المواقع الأخرى باعتمادها، فهي تعمل يومياً لإضافة خاصيات جديدة.
وتُستخدم الطريقة نفسها لاستهداف المتصفح الناخب للسيطرة على عقله والتأثير على خياره، من خلال تحديد الشريحة المستهدَفة وعرض محتوى سياسي يناسبها عبر منصة الإعلانات في المواقع.
وفي هذا الإطار، تتمّ هذه العملية من خلال تحديد الفئة العمرية والجنس والمستوى العلمي وجنسيته وغيرها، ويتم استهدافه بمواضيع تهمّه، لمصلحة المرشَح. وهذا بحدّ ذاته تلاعب بعقول الناس وسيطرة عليها، إذ كل حملة سياسية تستهدف شرائح متعددة ولكل شريحة محتوى لا يشبه الآخر. هذا ما لم يكن مسموحاً ولا وارداً في الإعلام التقليدي، حيث كان المشروع السياسي موحَّداً لجميع الناخبين.
ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، إذ يمكن استهداف جمهور معيّن بخصائص أكثر دقة، ويمكن استهداف جمهور "فيسبوك" على الهاتف بمحتوى مختلف عن جمهور "فيسبوك" على الحاسوب. ويمكن اختيار حتى نوع جهاز الهاتف الذكي الذي أود أن تصله الإعلانات على "فيسبوك" إذا ما أردت التسويق لتطبيق معيّن، ويمكن حتى اختيار أن يظهر الإعلان عندما يكون المتصفح مشبوكاً على الوايفاي وليس على 3g. فهذه وغيرها، تقنيات للسيطرة على عقول الناس واستهدافهم والتأثير بهم، وجعلهم متعلّقين دائمين.
شهادات موظفين سابقين في شركات التكنولوجيا
يذكر تقرير نشرته صحيفة غارديان عام 2017 شهادة موظفين سابقين في "غوغل" و "تويتر" و "فيسبوك" ساعدوا في جعل التكنولوجيا تسبب الإدمان، لكنّهم فصلوا أنفسهم عن الإنترنت، بعنوان " Our minds can be hijacked': the tech insiders who fear a smartphone dystopia"، أنّ شركات التكنولوجيا مثل "ابل" و "فيسبوك" و "غوغل"، دمجت مجموعة من ميزات التصميم في أجهزتها المحمولة وأنظمة التشغيل وتطبيقات الوسائط الاجتماعية التي تجعلها مسببة للإدمان، ما يؤدي إلى إنفاقنا على الإنترنت لفترة أطول ممّا نريده حقاً، بالنقر فوق الروابط التي لا نستخدمها، قصدت جعلنا أكثر تشتتاً وأقل عقلانية واندفاعاً من أي وقت مضى.
ويقول الموظف السابق في غوغل، تريستان هاريس، إنّ كل أذهاننا "مقيدة بالنظام"، و"يمكن اختطاف كل عقولنا. نحن لسنا أحراراً كما نعتقد". يعتقد هاريس أنّ شركات التكنولوجيا عمدت إلى جعل منتجاتها تسبّب الإدمان، لأنّها موجَّهة للاستجابة لحوافز اقتصاد الإعلان، وبالتالي تجربة التقنيات التي من المرجح أن تجذب انتباه الناس.
على سبيل المثال، يشير هاريس إلى أنّ أيقونة فيسبوك التي تُعلم المستخدمين بالنشاط الجديد و"الإعجابات" كانت في الأصل زرقاء اللون، لكن لم يستخدمها أحد، ثم قاموا بتحويلها إلى اللون الأحمر، واستخدمها الجميع، لأنّ اللون الأحمر هو لون محفز، ولهذا السبب يتم استخدامه كإشارة إنذار. الآن الأيقونة الحمراء موجودة في كل مكان، وفي كل مرة ينظر مستخدمو الهواتف الذكية إلى هواتفهم، عشرات أو مئات المرات في اليوم، يواجهون نقاطاً حمراء صغيرة، يتوسّلون من أجل النقر عليها.
يستغل التصميم الأكثر إغراءً، وفقاً لهاريس، القابلية النفسية التي تجعل المقامرة إلزامية للغاية - المكافآت المتغيرة. في كل مرة تقوم فيها بالتمرير لأسفل، فإنك لا تعرف ما سيحدث بعد ذلك، إما مجموعة كبيرة من الإعجابات، أو لا شيء، ويعكس الإجراء حتى ما يحدث في ماكينة القمار: إجراء بشري "لأسفل''، وتوقف مؤقت قبل نتيجة متغيرة. تم تصميم القائمة المنسدلة للتحديث في الأصل عام 2009، وأصبحت منذ ذلك الحين واحدة من أكثر الميزات التي تمت مضاهاتها على نطاق واسع في التطبيقات، على الرغم من إمكانية التحديث الآن تلقائياً، تظل وظيفة القائمة المنسدلة قائمة، لأنّه إذا لم يشارك المستخدمون في العملية، فإن التجربة أقل إدماناً.
وصمم جاستن روزنشتاين ميزة الإعجاب لفيسبوك في عام 2007 لإنشاء وسيلة لإرسال "أجزاء صغيرة من الإيجابية بنقرة زر واحدة"، وخلق ما يسميه الآن "الضربات الساطعة من المتعة الزائفة". حققت "الإعجابات '' نجاحاً كبيراً، وبالتالي انتشرت إلى مجموعة من منصات الوسائط الاجتماعية الأخرى، والآن أصبحت المتعة قصيرة المدى لهذا التأكيد الاجتماعي هي إحدى الميزات التي تدفع الأشخاص إلى لمس هواتفهم أو تمريرها أو النقر عليها أكثر من 2500 مرة في اليوم في المتوسط.
يمكن لشركات التكنولوجيا استغلال مثل هذه المعلومات لإبقاء الناس متورطين: التلاعب، على سبيل المثال، عندما يتلقى الأشخاص "إعجابات" لمنشوراتهم، والتأكد من وصولهم عندما يكون من المرجح أن يشعر الفرد بالضعف، أو في حاجة إلى الموافقة، أو بالملل فقط، ويمكن بيع هذه المعلومات لمن يدفع أعلى سعر.
ويصف جيمس ويليامز، وهو موظف سابق في غوغل قام ببناء نظام المقاييس لأعمال إعلانات البحث العالمية للشركة، ولكنّه تحوّل الآن إلى منتقد لهذه الصناعة، صناعة التكنولوجيا بأنها واحدة من أكثر الصناعات وأكثرها مركزية للتحكم في الانتباه في تاريخ البشرية. لقد مر بلحظة عيد الغطاس ذات يوم أثناء عمله في غوغل عندما ألقى نظرة خاطفة على إحدى لوحات المعلومات المتعددة الألوان في غوغل والتي تُظهر مدى اهتمام الناس الذي استحوذت عليه الشركة للمعلنين. يقول إنه أدرك "هذا حرفياً مليون شخص أقنعناهم بفعل هذا الشيء الذي لن يفعلوه بطريقة أخرى".
لقرائة المقابلة على موقع النهار مع الاعلامية فرح نصور اضغط هنا
Cyber Security & Digital Transformation - Consultant & Expert
CEO – Revotips Expert Tech Consultants